يشكل تطوير المصطلحات العلمية تحدٍ رئيسيٍ في تعزيز استدامة اللغة العربية، وتفاعلها مع تحولات العصر الحالي، وذلك في ضوء مجموعة من المتغيرات أهمها كثرة الإنتاج المعاصر في المجالات العلمية والتقنية في ظل تعدد التخصصات وتنوعها، تتجلى الحاجة الملحة للتعبير باللغة العربية عن غزارة المصطلحات العلمية والتقنية، التي وضعت أساسًا في اللغات الأوروبية. وينبغي علينا إيجاد المقابل المناسب بالعربية مما سبق، فالكتابة العلمية باللغة العربية هي تنظيم وصياغة للأفكار العلمية بشكل دقيق ومنهجي، وفقًا لمجموعة من القواعد المناسبة لنوع الكتابة العلمية المعينة، بما يشمل مراجعة الرسائل العلمية لغويًا، بمصطلحات عربية فصيحة، تعبر عن الأشياء بطريقة مختصرة، واضحة، مباشرة لا تحتمل التأويل ولا تحدث أي انزياح في المعنى.
تأثير الألفاظ في الكتابة: بين الإسهاب الأدبي والاختصار العلمي
الألفاظ كأدوات تُسهّل رحلة الفكر من عقل المتكلم إلى قلب المستمع، فهي تشكل الجسر الذي يربط بين الأفكار والمشاعر، فيسعى للألفاظ ما يراه كافيًا لتحقيق ذلك الغرض، فنجد الأديب يسهب في استخدام الألفاظ ويبالغ فيها؛ لأن المقام في الأدب يتطلب توسيع المقال، لكن في كتابة العلمية، لا مجال للإسهاب بل الاختصار هو سيد الأمر، فلا حاجة للكاتب أن يطيل الكلام فيما لا فائدة منه، الإطالة في الكتابة العلمية تأتي في سياق الخيال، حيث تتجلى الأفكار بألوانها وأشكالها المختلفة، على النقيض من أنواع الكتابة الأخرى التي تتيح للكاتب أن يعبّر عن فكره وخياله، فيطيل الكلام ويسهب فيها كيفما شاء ، ففي كتابة الرسائل العلمية تقوم على أساس القليل يفيد الكثير ، فهي تحرص على إيصال المعلومة إلى المتلقي كاملة بأقل عدد ممكن من الكلمات، إذ تنقل الأفكار باختصار وإيجاز؛ لأن الهدف من الكتابة العلمية هو نقل المعلومات بوضوح ليتسنى للقارئ التحليل والاستنتاج، لذلك أدى عددٌ من المختصين إلى القول بضرورة اعتماد المعادلة الرياضية في كتابة العلوم وشرح الظواهر العلمية، فلغة الرياضيات، يمكننا التعبير عن الأفكار والمفاهيم بشكل مختصر ودقيق، مما يجعلها أفضل لغة علمية لأنها تلبي متطلبات الاختصار والوضوح في التعبير، وعلى قدر المفهوم وبما يطابقه، وبأقل الألفاظ، وبأقصر عبارة ممكنة، تعتبر الرياضيات اللغة العلمية المثالية؛ لأنها تصف الظواهر الطبيعية بمعادلات رياضية قصيرة ومحددة المعنى، مما يجعلها أفضل لغة للعلم.
ضرورة التواضع في الكتابة العلمية: بين الألفاظ البسيطة والدقيقة
ومن بين خصائص الكتابة العلمية أيضًا استخدامها لعبارات مختصرة وسهلة الفهم، مما يجعلها مبسطة وموجزة، وذلك حتى لا يشتغل المتلقي بتفسير تلك المصطلحات، لكن عند محاولة التحليل قد يكون هذا المجهود مرهقًا ويدفع القارئ إلى الإحساس بالملل والاستياء؛ مما يمكن أن يشتته عن أهداف النص، ولأن الغاية من الكتابة ليست الكتابة نفسها إنما المادة المكتوبة، لا تحتمل الكتابة العلمية التورية أو الخيال التي تقوم على التحليل الفردي والذوق الشخصي، فالكتابة العلمية تعني بتناول الأفكار والحقائق وتنظيمها بشكل منطقي يتوافق مع مقتضيات البحث، وتعبر عن تلك الحقائق بعبارات سهلة الفهم ومفردات دقيقة تعبر بالضبط عما يريده الكاتب. إذ تمتاز الكتابة العلمية باختيار المصطلح المناسب الذي يعبر عن الفكرة بشكل واضح ودقيق، ويعبر اللفظ عن معنى واحد فقط، فالكتابة العلمية تتجنب استخدام المصطلحات المتعددة المعاني، وتعتمد على اللفظ الواحد للتعبير عن المفهوم العلمي بشكل دقيق. ويعتبر تدقيق رسالة الماجستير أو الدكتوراه خطوة أساسية في ضمان جودة الكتابة العلمية وتعزيز وضوحها وسلاستها، وذلك من خلال مراجعة اللغة والأسلوب، وتصحيح الأخطاء اللغوية والإملائية، والتأكد من دقة المعلومات العلمية، وتنظيم الأفكار بشكل منطقي، وضمان اتساق محتوى الرسالة مع معايير الكتابة العلمية المعمول بها.
الترجمة اللفظية في الكتابة العلمية: استعارة اللفظ الأجنبي أم استخدام المصطلح العربي؟
بما أننا نتحدث عن الكتابة العلمية باللغة العربية، يجب أن تكون المصطلحات التي يسجل بها العلم مادته مصطلحات عربية. إن الكتابة العلمية يجب أن يُعطى الأولوية فيها للاستخدام اللفظ العربي على الأجنبي، ولا يُسمح بالاستعارة من اللغات الأخرى إلا في حال عدم توفر مصطلحات معادلة باللغة العربية، وأن التنمية المعجمية العربية ينبغي أن تقوم على كلمات من أصول عربية لذلك يجب على الكاتب العلمي باللغة العربية أن يراعي استخدام المصطلحات العلمية العربية دون الأجنبية، فإذا لم يجد لفظة عربية تناسب حاجة النص، استخدم المقابل العربي للفظ الأجنبي أو المعرب منه، وذلك من خلال استخدام المصطلحات التي تقرها المجامع اللغوية، وجدير بالذكر أن العلماء العرب كانوا روادًا في وضع مصطلحات علمية متنوعة خلال فترات الازدهار العلمي، وتم استيعاب هذه المصطلحات في لغات العلماء في الغرب وأصبحت جزءًا من تراثهم العلمي. واليوم يستبدل كثير من علماء العرب المصطلح الأجنبي بالمصطلح العربي دون التنبه إلى وجود مصطلحات عربية شافية وافية. فاستخدام المصطلحات الأجنبية لا يعكس نقصًا في اللغة العربية، بل يظهر نقصًا في تعليم أبنائها وفهمهم للمصطلحات العلمية الغنية التي تقدمها، ودليلنا في ذلك أن العرب كتبوا في مختلف العلوم بلغة عربية فصيحة وهم أهل لغة وبلاغة دون استخدام اللفظ الأجنبي، فمن الأجدر أن نُثني على الإرث العظيم الذي تركه علماء العرب الأوائل، حيث سعوا جاهدين لإثراء ثقافتنا بمصطلحاتهم العلمية. ولذلك، يُعدّ تدقيق ومراجعة البحث لغويًا خطوة ضرورية لضمان دقة المصطلحات المستخدمة ووضوحها، فضلاً عن تعزيز سلامة اللغة العربية المستخدمة في البحث، مما يُسهم في إيصال المعرفة العلمية بدقة ووضوح إلى القارئ.
هل تختلف طريقة الكتابة العلمية عن الكتابة الأدبية؟
في مناقشة خصائص الكتابة العلمية، نشير إلى التباين الواضح بينها وبين الكتابة الأدبية، فالشيء يعرف بنقيضه، والأدب القائم على الخيال يناقض العلم القائم على الحقيقة والمنطق، فالاعتقاد بتناقض الخيال والعلم يمثل وجهة نظر شائعة بين الأدباء، وكان هذا الاعتقاد متبنيًا أيضًا في الدوائر العلمية الرسمية، وقد أكدها نيوتن حينما قال: “إنه لا يحبذ تدخل الخيال في العلم”، فالأسلوب الأدبي أو الكتابة الأدبية هي على النقيض تمامًا من الخصائص التي ذكرناها آنفًا. يمتاز كل أسلوب كتابي في العربية بسمات وخصائص تميزه عن غيره. في الكتابة العلمية، تلعب اللغة دورًا حيويًا في توصيل الفكرة بدقة واضحة، إذ يعتمد الأسلوب على الاختصار والصدق، بينما تعتمد الكتابة الأدبية على المجاز والتلميح، واللغة بالنسبة للعالم وسيلة لنقل أفكاره في الكتابة العلمية، لا تسمح اللغة بأن تكون وسيلة لتشكيل الأفكار والقيادة بحسب تقلبات المزاج، بل يبقيها بين يديه يسوغها حيثما شاء بما يتناسب مع مادته المكتوبة، ويعمل الكاتب العلمي على تغذية اللغة بالمصطلحات والرموز لتوسيع نطاق تعبيره عن الأفكار، عندما تكون الأفكار محدودة في التعبير. والعالم حريص دائما على أن تبقى اللغة أداة لحمل أفكاره مجرد أداة، يحافظ الكاتب العلمي على لغته من أن تتحول إلى إطار ضيق يقيدها بقوة ويحد من تدفق الأفكار فيها، إنه بعبارة صريحة: لا يسمح للشكل أن يطغى على الجوهر، ولا يرضى لفكره أو مادته أن تقع فريسة للأسلوب الشكلي، ومن ثم فهو على الدوام يشد باللغة كي تتسع لآفاق الفكر فيغذيها بالمصطلحات والرموز ، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأخطاء اللغوية في رسائل الماجستير والدكتوراه، على الرغم من قلّتها، قد تُشكّل عائقًا أمام تقييم البحث بشكل موضوعي، ممّا يُؤكّد على أهمية تدقيق اللغة العربية في مختلف مراحل كتابة البحث العلمي ، بينما نجد اللغوي يزين نصه بجمال اللغة، فهو يرى في اللغة بحارًا لا ينفد ماؤها، يغذي نصه بكل ما يحتاج إليه من جماليات الكتابة وحسن التعابير.
هل تؤثر السياسة على مستوى تقدم الكتابة العلمية؟
كثيرة هي العقبات التي تحيط باللغة العربية من كل جانب، تحول بينها وبين التطور والرقي بعض التحديات تنبع من اللسان العربي، بينما تأتي التحديات الأخرى نتيجة للأوضاع السياسية والاقتصادية في الدول العربية. يمكن أن نجمل تلك التحديات فيما يأتي:
- يتفق الباحثون على أن السياسة تأثيرها كبير في تقدم اللغة وتدهورها، ومن هنا نجد أن اللغة العربية تمر بفترات من الضعف والاضطراب خلال فترات الاستعمار، وتزدهر وتتطور بعد التحرر والاستقلال، وخير شاهد على ذلك الضرر الذي ألحقه الاحتلال الفرنسي بدول المغرب العربي. إن الدول العربية التي احتلتها فرنسا تعلم الطب بالفرنسية، والدول التي احتلتها إنجلترا تعلم الطب بالإنجليزية ويصدق ذلك على الصومال التي جمعت في تدريس الطب بين الصومالية والإيطالية. تأثرت اللغة بالضعف والوهن الذي ألمَّ بالأمة، وهي تمثل لها مصدر عزتها ورمز قوميتها، بجانب بعض العوامل الداخلية. إن الضعف العام الذي ينتاب كيان الأمة يُتركها عاجزة عن الحفاظ على هويتها وحماية كيانها، وعن الدفاع عن ثوابتها ومكتسباتها وحقوقها ومصالحها، ولا يعزى هذا الضعف دائمًا إلى العوامل الخارجية كالاستعمار بأشكاله المختلفة، ولكنه يعود في الوقت نفسه إلى العوامل الداخلية.
- يرجع دور المجامع اللغوية في خدمة الكتابة العلمية باللغة العربية إلى عدة عوامل، ومن بينها الوضع السياسي الذي يرتبط بحكومات الدول العربية، والتخلف العلمي والثقافي اللافت، ورفع الدعم اللازم عن المجامع اللغوية الذي يمكنها من القيام بدورها على أكمل وجه. ومن جانب آخر، على الرغم من أهمية التواصل بين المجامع اللغوية لخدمة اللغة العربية، إلا أن انقطاعه يتطلب إعادة النظر في الجهود المبذولة والتركيز على تعزيز العمل على إصلاحها والاهتمام بها، التي هي من شأن المجامع العلمية التي أُوجدت لهذه الغاية. بالتزامن، نجد أنفسنا في حالة مزمنة من عدم الاهتمام بإعادة الإصلاح اللغوي، إذ استسلمنا واستكنا لما تبلورت عليه لغتنا، وكأن لغات الشعوب تنمو بشكل تلقائي وتباعًا من عللها دون تدخل من أحد. ولكن، للارتقاء باللغة العربية وتطويرها، لا بدّ من اتخاذ خطوات جدية لتعزيز التدقيق والتحرير اللغوي في التخصصات المختلفة للرسائل العلمية والأبحاث والمقالات البحثية. فهذا من شأنه أن يُساهم في تحسين جودة اللغة العربية المستخدمة في هذه المجالات، ممّا يُؤثّر إيجابًا على فهم المحتوى العلمي ونشره.
كيف تحرر الكتابة العلمية باللغة العربية في نقل العلوم من رهان اللغات الأجنبية؟
كثيرة هي المنافع المترتبة عن الكتابة العلمية باللغة العربية، فالكتابة العلمية تتأثر بالجوانب المتعددة لحياة المجتمعات العربية، بما في ذلك الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي. إذا ما نشطت عاد ذلك النشاط بالفائدة على أصحابها، ويمكن أن نجمل أهم تلك الفوائد فيما يأتي:
- تساهم الكتابة العلمية بالعربية في نقل العلوم إلى المجتمع العربي وتحريرها من رهان اللغات الأجنبية؛ إذ لا يتم التوصل إليها إلا من خلالها، يعتبر غير مقبول أن تظل العلوم والتقنيات مقيدة باللغات الأجنبية، فاللغة العربية تستحق أن تكون لغة العلوم، وربما يؤدي ذلك إلى خلق جو علمي ثقافي مضطرب متردد بين الثقافة الأجنبية صاحبة العلوم والثقافة العربية التي نتبناها
- الكتابة العلمية باللغة العربية يحافظ عليها ويسهم في استمرارية بقائها وتقدمها، لان العلم يمثّل السلطة الرئيسية اليوم، وتتسابق اللغات لاحتضانه وتبنّيه، واللغة التي تخضع لهذا التطور هي لغة عاجزة وضعيفة. فكتابة العلوم بالعربية والتدريس بها يعني الخروج بالعربية من دائرة الشك والاتهام إلى المجال الرائد الذي تستحقه والارتقاء بها إلى رأس الهرم، ثم يجعل هذا الحقيقة من المستحيل إثبات ادعاءات المنتقدين الذين يروجون لفكرة عجز اللغة العربية عن التفاعل مع التطورات العلمية والتكنولوجية، وهذا ما يجعل تصحيح الرسائل العلمية باللغة العربية خطوة أساسية لتعزيز مكانتها في هذا المجال، وضمان جودة المحتوى العلمي المنشور باللغة العربية.
- الكتابة العلمية باللغة العربية تُسهل على دارس العربية تلقي العلوم وفهمها وكتابتها نظرًا إلى أن التعامل مع اللغة الأم على الفرد بشكل كبير مقارنة باللغات الأجنبية، مما يجعلها الخيار المفضل في العديد من السياقات اليومية والعملية، مما ينتج عنه أثار إيجابية أبرزها سرعة الفهم والاستيعاب وارتفاع مستوى التحصيل، ولذلك، فإن تصحيح الرسائل العلمية باللغة العربية يُعدّ ضرورة ملحة لضمان دقة المعلومات العلمية المنشورة باللغة العربية، وتعزيز ثقة الباحثين والقراء في المحتوى العلمي العربي.