تبرز اللغة العربية بخصائصها البدائية التي تُضفي عليها طابعاً صعباً ومعقداً. ومن يقول لك إن العربية لغة سهلة فإنما يغالط نفسه في الحقائق. هذه الصعوبات الملازمة للغة خلقت على مر الأجيال (مشكلة لغوية) المشكلة اللغوية، يدركها الأساتذة والمرشدون والمتعلمون، وفي هذا السياق ترتفع أصوات المطالبة بالتيسير، لأن الله يأمر باليسر. ولكن التيسير، كما سنرى في السياق التالي، غير ميسور. ولهذا، ينبغي التخفيف من شدة تلك الصعوبات، وذلك بالنظر مرة أخرى إلى أساليب تدريس قواعد اللغة، والكتابة، والتعبير، والأدب. وما يهمنا الآن هو إعادة صياغة النص بالعربي لمعالجة تعليم القواعد وعرضها بطريقة منطقية، وعلى أساس تبويب جديد، مما يعزز استيعابها في أذهان الطلاب ويجعلها محببة في قلوبهم.
ثورة الكتابة: رحلة اللغة العربية من التنقيط إلى الإبداع الحر
خطت العربية خطوات مستمرة نحو إعادة صياغة العربي، حيث بدأت الكتابة دون استخدام النقاط، ولكن لم يكن من الصعب على العرب فهم النصوص غير المنقوطة بفضل قدرتهم على استنتاج السياق والتمييز السريع. فلما اتسع نطاق المملكة العربية، وأقبل الأعاجم يتلقون اللغة، وأخذت الأمة بأطراف العلوم والفنون، وكثر تداول الكتب، مست الحاجة إلى النقاط، ثم نشأ الضبط أو الشكل تخفيفاً لعبء الفهم وتقييداً لقواعد النحو والصرف. ومع ذلك، لم يتم استخدام هذا النظام إلا في النصوص التي كانت معرضة للتحريف، مثل النصوص الدينية، والأدبية، واللغوية، ويمكننا التأكيد على أن علامات الشكل لم تكن فعالة منذ بدايتها. وإننا لنجد دليلاً لذلك في الطريقة التي كان يستخدمها العلماء القدماء لضبط الألفاظ، حيث كانوا يعتمدون على تفسير الحركات دون استخدام العلامات، فكانوا يقولون: ‘بفتح الحاء المهملة، وضم الجيم المعجمة، وكسر التاء المثناة فوق’، وما شابه ذلك.
تحت المجهر: التوازن بين تبسيط اللغة والحفاظ على الثراء اللغوي
يتحقق تبسيط اللغة من خلال التقليل من الألفاظ الغير مألوفة والاستمرار في استخدام الألفاظ المأنوسة والمألوفة، دون غوص على المهجور المجفو من الكلام، إلا ما تقتضيه ضرورة التعبير عن معنى دقيق أو حقيقة جديدة لا يعبر عنها بلفظ متعارف، وعلينا ألا نتناسى الدقة والجاذبية في اختيار الألفاظ، ولنتجاهل التفاصيل غير الضرورية في بياننا، حيث انقضى ذلك الزمان الذي كانت فيه البراعة معياراً للتعبير من خلال الألغاز واصطياد الألفاظ النادرة. وأصبح البيان الحق يدور على استعمال اللفظة المعبرة الكاشفة في موضعها الملائم بأسلوب وضاح لا تعقيد فيه. وكذلك تبسط اللغة بتحديد معاني الألفاظ تحديداً منطقياً، لذلك، لا ينبغي الإفراط في ابتكار المترادفات أثناء صياغة الجمل في اللغة العربية التي تجعل الألفاظ غير واضحة في معانيها. وقد استطاع كتاب العصر الحديث أن يمضوا في هذه السبيل شوطاً بعيداً، بفعل التوسع الثقافي ورفعة الذوق الأدبي، تحددت قيم كثير من الألفاظ وتعينت دلالاتها المعنوية، وذلك بفضل الاطلاع على حقائق العلم والاجتماع.
دعوة البعض إلى اختزال اللغة بهدف التبسيط اللغوي
وقد جال بخاطر بعض دعاة التبسيط اللغوي أن ينشئوا لغة مختزلة ذات ألفاظ محدودة لا تتجاوز بضع مئات الكلمات بهدف إعادة صياغة النص العربي وقد جال بخاطر بعض دعاة التبسيط اللغوي أن ينشئوا لغة مختزلة ذات ألفاظ محدودة لا تتجاوز بضع مئات الكلمات مع تأديتها الجميع المعاني وذلك محاكاة للغة الإنجليزية المسماة “البيسك”، وفائدتها أن تساعد على انتشار اللغة والإقبال على تعلمها وسهولة استعمالها ونرى أن هذه اللغة لن تحقق النجاح، لأن المتعلم لن يكون قادراً على التعبير بشكل شامل ومفصل إذا كان مقيداً بالاستخدام الحصري لعدد قليل من الكلمات، ولا أن يفهم غيرها فإذا قرأ فلا بد أن يقرأ المكتوب بهذه اللغة وحدها ، وبذلك لا تكون له صلة باللغة الأصلية ، ولا بما تنتجه عامة أدباءها وعلمائها . واحدة من العيوب الأخرى للغة المختزلة هي أن الكلمات القليلة قد تحمل معانٍ متعددة؛ مما يؤدي إلى تباين في استخدام الكلمة وفهمها بين الناس، وذلك ما يناهضه مصلحو اللغات في الأمم. وفوق ذلك كله لا تصلح اللغة المختزلة للأدب والشعر، لأنهما يتطلبان رونقًا لفظيًا، ويقتضيان إيثار تعبير على تعبير، وكذلك بعض العلوم. والفنون يستلزم دقة في البيان لا تتيسر مع قلة الألفاظ وضغطها؛ وعليه فإن تيسير اللغة لا يكون بوضع لغة مختزلة، إلا أن يراد أن تعد هذه اللغة خطوة أولية لتعلم اللغة الأصلية.
مستقبل النحو العربي لتصفية القواعد غير الضرورية
منذ القدم، كانت تنقية النحو من بين المسائل التي اهتم بها الباحثون، وتباينت وجهات النظر بين التفريط والإفراط في التعامل مع القواعد النحوية. وفي معتقدنا أنه لا سبيل لنا إلى التخلي عن النحو، لأنه من مقومات اللغة وأصولها إذا كنا حقًا نهدف إعادة صياغة النص بالعربي، فإذا تخلينا عنه فقد هدمنا ركناً أساسياً تعود بعده اللغة فوضى تحتاج إلى ضوابط تحل محله، إذ لا بد من تصفية القواعد الكثيرة وتنقيتها، مع الاحتفاظ بالجوانب الأساسية، واستلهام بعض المبادئ من نهج النحاة القدامى لتسهيل فهم القواعد بقدر الإمكان.، وحذف ما لا يلائم التطور العصري للغة. وأكاد أجزم بأن النحو سيظل أساس لغة الكتابة يتقارب لغة الكتابة واللغة الشفوية، حتى يصبح النحو مقتصرًا على عدد قليل من القواعد الأساسية. وفي ذلك الوقت، يمكن أن يقتصر النحو على نقاط قليلة في اللغة العربية. جديراً بالتنويه عنه، أن مشكلة النحو لم تكن معضلة من البداية ولا في النهاية، بل برزت نتيجة لمشكلة الضبط والتنقيح.
بين لغة الشارع ولغة الكتابة.. أيهما أصح؟
استقر المثقف والإنسان العادي في وليجة نفسيهما أن هناك اثنان: لغة كتابة وتدوين، ولغة تخاطب وحديث، عندما يتحدث، ينساب كلامه بليونة ونعومة، برقة اللسان، بلهجة العامة المتداولة، أما عندما ينبرى للكتابة، يستعرض تعبيراته وألفاظه بدقة ودلالة، مراعياً كل ما يقتضيه البيان العربي القويم وما ينص عليه في كيفية صياغة الجمل في اللغة العربية، وكأنه بذلك يصقل قوله، وينسق تعبيره، لكي يتسامى نحو تلك الآفاق المشرقة، إلى ربوع الفصاحة، يظهر انزياحاً عن استخدام المصطلحات الشائعة في الحديث اليومي، يسعى بكل جهده لتوظيف الألفاظ الفصيحة والمتميزة، وأن يستبدلها بما يدور في الحياة العامة من تعابير بل إن رجل الشارع، إذا تحدث إلى بعض المثقفين فيما يهمه، أخذ نفسه بالترفع بأسلوبه بقدر ما في طوقه أن يترفع، يهتم في حديثه بتنقيح عباراته، ويسعى جاهداً للتقرب من اللغة الفصيحة بقدر ما يستطيع، ويعمل على تطوير مهاراته في هذا الصدد.
انسجام العامية والفصحى: رحلة لتخطي الفجوة وتقريب اللغات
لا خشية على الفصحى إذن من الناقمين عليها، ومن الداعين إلى اتخاذ العامية مكانها، فالتفسير الصحيح لهذا النقص وتلك الدعوة أن الرأي العربي العام يرغب في تيسير الفصحى حتى تقترب من الجمهور بدون عناء، وأن تُخف حدة التفاوت بين الفصحى: لغة التدوين، والعامية لغة الحديث، فإن لم تكن لغة واحدة يتخذها الجمهور في خطابه وفي كتابته على السواء، وعليه وجب التقارب بين اللغتين لغة الجمهور ولغة الصفوة وان تندو تلك الفجوة دنوًا ليس بالقليل. وسبيل ذلك أن نواصل تذليل عقبات الفصحى التي تتمثل في تعقيدات النحو والصرف، وفي مصاعب ضبط الأوزان والصيغ، وفي قيود وسائل الوضع والاشتقاق، وأن تتألف من المصطلحات الشائعة ما يتيح توجيهها أو تبسيطها، إذا صح هذا الوصف، ففي العامية هناك عدد لا يحصى من المصطلحات التي تلبي تلك الغاية، ولكنها تبقى غير مستخدمة، لمجرد أنها عامية، ولو أردنا أن نستعيد تلك المصطلحات في اللغة الفصحى لتحقيق إعادة صياغة النص بالعربي على نحو يسير، مثل استخدام “شاف” بمعنى “نظر”، واستخدام “الطراوة” بمعنى “رخاوة النسيم”، واستخدام “النهمة” بمعنى “بقية القوة”، فهناك العديد من الكلمات والمصطلحات المتوافقة مع هذه المعاني في اللغة الفصحى.